إشارات مرور ضوئية للتخفيف من الازدحامات المرورية

سماح الشافعى الطنطاوي

سماح الشافعى الطنطاوي

egyptscholars

تابعنا على

في أكتوبر عام 2013 حصلت رسالة الدكتوراه من جامعة تورنتو المتعلقة بتطوير نظام التحكم في إشارات المرور الضوئية عند التقاطعات وجعلها أكثر ذكاءً باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، على جائزتين دوليتين إحداهما من المنظمة الدولية لبحوث العمليات والعلوم الإدارية (INFORMS) Dantzig Dissertation Award”” والجائزة الأخرى هي المركز الأول كأفضل رسالة دكتوراه من منظمة الإلكترونيات والهندسة الكهربائية في مجال طرق النقل الذكية (IEEE- ITSS).

سأحاول أن أوضح بشكل مبسط فكرة عمل هذا النظام المسمى بـ “MARLIN” اختصارًا للاسم الأطول والذي سيتم إيضاحه لاحقًا. ولكن قبل الخوض في ما هو “MARLIN“؟ سوف أتحدث عن لماذا “MARLIN“؟ وما حاجتنا إليه؟

لا يحتاج الشخص إلى الحصول على أي درجة علمية حتى يدرك حجم مشكلة الزحام المروري وآثاره السلبية على الأفراد والبيئة وبالتالي المجتمع ككل. فالوقت المهدور في الانتظار في زحام المرور، والتوتر المصاحب لذلك، ناهيك عن التلوث البيئي النابع من الغازات الضارة الصادرة من السيارات عند توقفها. لكل ذلك آثاره البالغة على محصلة إنتاج الأفراد وبالتالي إنتاج الدولة. إذ تقدر تكلفة الزحام المروري نقديًا بإدخال كل ما سبق في الاعتبار بمليارات الدولارات سنويًا وذلك ما يستدعي العمل السريع على حلول لهذه المشكلة التي تعاني منها معظم المدن الكبيرة والمتوسطة في أنحاء العالم وخصوصًا مع التزايد المستمر في عدد السكان.

و حتى نجد الحلول علينا أن نفهم الأسباب المؤدية للمشكلة أولًا.

السبب في الحقيقة بديهي، وهو زيادة كمية الطلب على سلعة عن كمية المعروض والمتاح من هذه السلعة، والسلعة هنا هي شبكات الطرق والنقل؛ فكلما زادت نسبة عدد السكان وبالأخص عدد مستخدمي السيارات عن السعة المحدودة للطرق يزداد الوقت المهدور في الانتظار في الزحام المروري وهذه الزيادة تكون، لا زيادة بنفس المقدار أو حتى أضعافه، بل زيادة قاسية وهو ما يعني أنه بمجرد حدوث زيادة بسيطة جدًا في عدد المستخدمين لشبكة الطرق تكون هناك زيادة هائلة في الزحام المروري. والآن وبمعرفة الأسباب نستطيع القول أن الحلول هي في محاولة تقليل هذه النسبة بين الطلب والعرض والذي يتحقق بطريقتين:

  • الطريق الأول هو زيادة سعة شبكات الطرق والنقل وذلك مثلًا بالقيام بتوسعات في الطرق وبناء طرق جديدة وتفعيل عقوبات انتظار وتوقف السيارات في أكثر من صف في الشارع الواحد وإنشاء مواقف سيارات بشكل لا يؤثر على سعة الطرق وغيرها.
  • الطريق الثاني هو تقليل عدد مستخدمي السيارات في هذه الشبكات وذلك مثلًا بتحسين وتطوير خدمات النقل العام والعمل على إتاحة وتشجيع أي وسائل نقل أخرى كركوب الدراجات أو توزيع السكان وأماكن العمل الحيوية توزيعًا مكانيًا وزمنيًا. المكاني بتوزيع المنشآت والخدمات جغرافيًا، والزمني بتوزيع أوقات عمل الموظفين والطلبة زمنيًا بشكل يقلل من احتمال وجودهم جميعًا في نفس الطرق في ذات الوقت.

هذه حلول منطقية وتحتاج بالتأكيد للعمل عليها ولا يوجد بديل عنها ولكن قد يوجد مكمل لها. في حين أن هذه الحلول تصنف كحلول على المدى البعيد وتحتاج لتخطيط وتكاليف مادية باهظة، هناك طريق آخر يعتبر كما قلت مكملًا يساهم في حل هذه الأزمة بتكلفة أقل وعلى مدى زمني أقصر. هذا الطريق ليس بتقليل الطلب ولا بزيادة العرض وإنما يتمثل في إدارة التفاعل بين العرض والطلب بشكل أكفأ. وذلك يتحقق بالقدرة على التحكم في حركة السيارات على شبكة الطرق بشكل ينظم هذه الحركة أكثر وبالتالي يستغل سعة الشبكة بشكل أكفأ. وتعتمد النظم التي تعمل بهذا المبدأ في مجملها على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتي تندرج تحت ما يسمى “نظم النقل الذكية”، وواحد من هذه النظم هو التحكم في إشارات المرور الضوئية وذلك بالتحكم في الأوقات المحددة لكل اتجاه عند كل تقاطع. ولكن ما الجديد في ذلك، فهناك إشارات مرورية في بعض التقاطعات الهامة، والتي يشعر الشخص أحيانًا أن عدم وجودها ربما كان أفضل؟

حسنًا دعونا نتفق أولًا أن الهدف الأساسي من وجود إشارات المرور هو السلامة وذلك لأنه من اسمه “تقاطع” يعني أن وجهة السيارات تتقاطع وذلك ما قد يؤدي قطعًا لحوادث، وعليه فإن وجود إشارات مرور هو لتنظيم أولوية المرور للاتجاهات المختلفة. ولكن على الرغم من أن ذلك قد يساعد في تأمين السلامة الظاهرية للأفراد إلا أنه يدمر السلامة النفسية إذا اضطر ركاب السيارات للانتظار وقتًا طويلًا بلا داعٍ عند كل إشارة مرور.

ذلك لأن معظم أنظمة التحكم للإشارات المرورية الموجودة في معظم مدن العالم معتمدة على توقيت ثابت لكل اتجاه تم حسابه وفقًا لمعلومات مجمعة مسبقًا عن الأحجام المرورية لهذا التقاطع من الاتجاهات المختلفة، فتتم برمجة هذه التوقيتات وتظل ثابتة لا تتغير مع الوقت أو مع تغير الكثافة المرورية. هذا النظام قد يكون مقبولًا لتقاطعات عليها حجم مروري متوقع دائمًا وليس كبيرًا. ونظرًا لأن الحالة المرورية عند كل تقاطع تؤثر وتتأثر بالحالة المرورية عند التقاطعات المجاورة، فمن المهم جدًا أن يؤخذ ذلك في الاعتبار عند التحكم في كل إشارة مرورية بحيث يكون هناك نوع من التعاون والتنسيق بين الإشارات المرورية بعضها البعض.

بالطبع كان من المتوقع أن تتطور هذه الأنظمة لتأخذ ذلك في الاعتبار وذلك ما حدث في الثلث الأخير من القرن الماضي بظهور نوع آخر من نظم التحكم في إشارات المرور مطبق في معظم المدن الكبرى المزدحمة في العالم والذي يتم فيه تغيير توقيتات كل اتجاه بشكل متكيف مع الكثافة المرورية الحالية ويضمن الوصول لأفضل استغلال لشبكة الطرق وأقل وقت انتظار لمستخدمي السيارات.

جميل وهذا هو المطلوب، إذًا فنحن لسنا بحاجة إلى نظم تحكم جديدة؟ هذا قد يكون صحيحًا فقط إذا كانت تلك الأنظمة لا تصحبها الكثير من القيود والعيوب كما هو الوضع. تتضمن التحديات والقيود المصاحبة لهذه الأنظمة ما يلي : –

  • احتياجها لوجود غرفة عمليات تحكم مركزية تستقبل المعلومات حول الكثافة المروية للإشارات المختلفة وتقوم بعمل الحسابات اللازمة، ثم تُرسَل هذه الإشارات لكل إشارة مرورية على حدة. وبالتالي فالتكلفة المادية لإنشاء غرفة كهذه وأيضًا إنشاء وصيانة شبكات الاتصالات القوية التي تضمن التواصل الدائم المستمر بين أماكن بعيدة معًا، هي تكلفة باهظة.
  •   الطرق الحسابية المستخدمة في معظم هذه الأنظمة معقدة ويزداد تعقيدها (الوقت المطلوب للحساب وسعة التخزين المطلوبة) زيادة قاسية أيضًا بزيادة عدد التقاطعات المراد التحكم فيها.
  •  التعاون بين الإشارات المختلفة، للأخذ في الاعتبار تأثيرها على بعضها البعض؛ ويتم على التقاطعات المتتالية في طريق معين والذي قد يضمن سيولة مرورية على هذا الطريق لكن قطعًا يؤثر سلبيًا على الاتجاهات العمودية عليه والتي قد تكون عليها أيضًا كثافة مرورية عالية.

والآن، سأشرح ما هو MARLIN وكيف يعمل وكونه إحدى هذه الآليات الجديدة، دون الخوض في تفاصيل رياضية، فالهدف هو توضيح الصورة كاملة بشكل مبسط (وسأستعين في ذلك ببعض طرق التوضيح التي تعلمتها من أستاذي الفاضل باهر عبد الحي).

بدايةً MARLIN هو اختصار للاسم التالي بالإنجليزية:

Multi-Agent Reinforcement Learning for Integrated Network of Adaptive TrafficSignal Controllers (MARLIN-ATSC)

وكما علمنا، الهدف من إشارات المرور الضوئية بالأساس، بعد السلامة، هو إدارة التفاعل بين شبكات الطرق ومستخدميها بكفاءة أعلى. لذلك وحتى نحصل على كفاءة أعلى، علينا أن نصمم تلك الإشارات المرورية حتى تكون أذكى. فكرة MARLIN كما ذكرت سابقًا هي جعل كل إشارة مرورية أكثر ذكاءً (Smart) كما في حالة الهواتف المحمولة الذكية (Smart Phones) أو التلفزيونات الذكية (Smart TVs)

حسنًا إذًا، ما الذي يجعلنا نصنف أي ماكينة أو جهاز أنه ذكي؟ سيكون المثال هنا، للتوضيح، عن إحدى خواص الهواتف المحمولة الذكية.

  •   قدرة الجهاز على استشعار ما حوله. مثال: قدرة هذه الهواتف على استشعار لمس الشاشة – قدرة الجهاز على فهم وتفسير ما حوله من خلال ذلك الاستشعار. مثال: فهم لمس الشاشة بنمط معين على أنه رمز المرور السري لفتح الجهاز.
  • قدرة الجهاز على التفاعل مع ما حوله. مثال: قبول أو رفض فتح الجهاز بناءً على الرمز الذي تم إدخاله.
  • قدرة الجهاز على التعلم من خلال ذلك التفاعل. مثال: الاحتفاظ بشكل رمز فتح الجهاز وتعلم كل الأنماط الشبيهة له التي قد يستخدمها صاحب الجهاز قاصدًا نفس الرمز.
  • القدرة على التغيير من تفاعله على حسب ما حوله. مثال: إمكانية تغيير الرمز السري لفتح الجهاز وتغيير طريقة التفاعل معه بالتبعية.
  • القدرة على تحسين التفاعل مع ما حوله. مثال: قبول رمز فتح الجهاز، حتى إذا تم اللمس بنمط لا ينطبق تمامًا على الرمز، ولكنه يشمل الخصائص المميزة للنمط الصحيح.

وفي النهاية، فإن كل ما سبق كان للوصول للهدف الأساسي من ذلك الجهاز الذكي وهو مساعدة مستخدمه. وبعد أن عرفنا ما يميز أي آلة ذكية، دعونا نفكر ما هي أذكى آلة يعرفها الإنسان؟ نعم ، إنها المخ، فسبحان الله، يُعتبر المخ أكثر الآلات تعقيدًا على وجه الأرض، ومهما اكتشف الإنسان من قدرات ذلك المخ فبالتأكيد مازال هناك الكثير مما لم يكتشف بعد ” ولا يحيطون بشيءٍ من علمه إلا بما شاء” صدق الله العظيم.

وضمن قدرات المخ تعلم بعض المهارات دون معلم، فقط من التفاعل المباشر مع ما حوله. وذلك بأن يتعلم من تجاربه وقراراته السابقة ومردود تلك القرارات على المدى البعيد ثم يُعَزِّز تلك القرارات ذات المردود الأفضل. وهناك واحدة من طرق الذكاء الاصطناعي تحاكي تلك الوظيفة وتسمى “تعزيز التعلم أو Reinforcement Learning ” وهي الطريقة التي صُمّم “MARLIN” ليعمل بها حتى تكون الإشارات المرورية الضوئية عند التقاطعات أكثر ذكاءً.

**جدير بالذكر أن حقوق الملكية الفكرية لهذا البحث هي للباحثين الدكتورة سماح الطنطاوي، والأستاذ الدكتور باهر عند الحي، جامعة تورنتو ، والشركة الناشئة “Pragmatic Transportation Innovations”.

.

للاطلاع على المزيد من التفاصيل:

  • El-Tantawy, S., and Abdulhai, B.,” Towards Multi-Agent Reinforcement Learning for Integrated Network of Optimal Traffic Controllers”, Transportation Letters: The International Journal of Transportation Research, 2010.
  • El-Tantawy, S., and Abdulhai, B.,” An Agent-Based Learning towards Decentralized and Coordinated Traffic Signal Control”, In proceedings of the 13th International IEEE Annual Conference on Intelligent Transportation Systems (ITSC), Madeira, Portugal, 2010.
  • El-Tantawy, and Abdulhai, B.” Comprehensive Analysis of Reinforcement Learning Methods and Parameters for Adaptive Traffic Signal Control ”, In proceedings of Transportation Research Board Conference, Washington D.C., 2011.
  • El-Tantawy, S., and Abdulhai, B.,” Neighborhood Coordination-based Multi-Agent Reinforcement Learning for Coordinated Adaptive Traffic Signal Control”, ”, In proceedings of Transportation Research Board Conference, Washington D.C., 2012.
  • El-Tantawy, S., and Abdulhai, B.,” Multi-Agent Reinforcement Learning for Integrated Network of Adaptive Traffic Signal Controllers (MARLIN-ATSC)”, In proceedings of the 15th International IEEE Annual Conference on Intelligent Transportation Systems (ITSC), September 2012.
  • El-Tantawy, S., Abdulhai, B., and Abdelgawad, H.” Multi-agent Reinforcement Learning for Integrated Network of Adaptive Traffic Signal Controllers (MARLIN-ATSC): Methodology and Large-Scale Application on Downtown Toronto”, IEEE Transactions on Intelligent Transportation Systems, Vol. 14, Issue No. 3, 1-11, 2013.
  • El-Tantawy, and Abdulhai, B., and Abdelgawad, H.”” Design of Reinforcement Learning Parameters for Seamless Application of Adaptive Traffic Signal Control”, Journal of Intelligent Transportation Systems: Technology, Planning, and Operations, Volume 18, Issue 3, pages 227-245, 2014.

More Posts

Papers published through Labs Program

Papers published through Labs Program

يتم يومياً نشر العديد من الأوراق البحثية العلمية في مجلات و جرائد علمية دولية يقدمها باحثون من مختلف الجهات البحثية الرسمية حول العالم ، لكن ما يميز هذه الورقة البحثية هو كونها نتاج أحد مبادرات مؤسستنا الغير ربحية و التي تهدف للتوعية بأهمية البحث العلمي و تقديم كل عون...

الدراسة في ألمانيا

الدراسة في ألمانيا

تكرس ألمانيا منذ قرون اهتماماً بالغًا بالعلم والثقافة والمعرفة؛ فمفكروها وفلاسفتها وموسيقيوها أغنوا المكتبات العالمية. وتتميز ألمانيا بجامعاتها ومعاهدها التي تنتهج أحدث ما توصل إليه العلم لتطبيق مناهج دراسية متطورة قادرة على بناء أجيال من المتعلمين والمجهزين بأحدث ما توصل إليه العلم البشري لتعليمه وتطويره وتعتبر الدراسة في ألمانيا شبه مجانية للطالب المحلي والأجنبي على السواء . تعرف على هذا وأكثر من خلال الفيديو المرفق في المقال

هل تمثل منح الدراسة في بعض الجامعات العربية فرصة تعليم حقيقية ؟!

هل تمثل منح الدراسة في بعض الجامعات العربية فرصة تعليم حقيقية ؟!

في السنوات الأخيرة انتشرت فرص الحصول على منح دراسية وكثير من المميزات الإضافية من بعض الجامعات في الدول العربية، ولنكن أكثر تحديدًا فھي جامعات دول الخليج العربي المختلفة وبشكل خاص جامعات المملكة العربية السعودية. وللإجابة عن ھذا السؤال يجب أن نضع نصب أعيننا سؤال آخر...

مصادر ومبادرات معرفية وعلمية متاحة باللغة العربية

مصادر ومبادرات معرفية وعلمية متاحة باللغة العربية

أصبح التعلم من على الإنترنت وسيلة هامة في وقتنا الحالي. لكن هل توجد مبادرات ومؤسسات معنية بذلك وتنطق باللغة العربية؟ بالتأكيد .. ليس هذا فقط بل إن تلك المبادرات متنوعة في ما تقوم بها من أنشطة .. بعضها يركز على الدورات والكورسات والبعض الآخر يركز على الترجمة ونشر...

Subscribe To Our Newsletter

Subscribe To Our Newsletter

Join our mailing list to receive the latest news and updates from our team.

You have successfully subscribed! Please make sure to add our email (info@egyptscholars.org) to your address book.