بالطبع أغلبنا قد سَمِع أو قرأ من قبل عن نظرية الدماغ الأيسر والأيمن وتعرضنا لأشخاص يعتقدون أنهم يستخدمون الجزء الأيسر من الدماغ أكثر من الأيمن أو العكس وقد يكون بعضكم يعتقد بصحة هذه النظرية أيضًا، وعلى الأرجح البعض منّا قد تعرّض من قبل لاختبارات على الإنترنت الغرض منها تحديد ما إذا كنت تستخدم الجزء الأيمن أو الأيسر من دماغك. ونظرًا للشهرة الكبيرة التي تحظى بها هذه النظرية قد تتفاجأ عندما تعلم أن هناك الكثير من المغالطات المتعلقة بها وأن هناك أبحاثًا حديثة تثبت خطأها.
إذًا ما هي هذه النظرية؟
وفقًا لنظرية سيطرة الجزء الأيمن أو الأيسر من الدماغ، كل جزء من الدماغ يتحكم في أنواع مختلفة من التفكير لهذا هناك أشخاص تُفضل وتبرَع في نوع مُعين من التفكير على الأخر. على سبيل المثال، الشخص الذي يستخدم الجزء الأيسر من الدماغ يُقال أنه يتَميّز في التفكير المنطقي والتحليلي وموضوعي بينما يتميز الشخص الذي يستخدم الجزء الأيمن من الدماغ بأنه حدسي وعميق التفكير وغير موضوعي.
في علم النفس نجد أن هذه النظرية مبنية على ما يُعرف بنظرية التخصيص الجانبي لوظائف الدماغ lateralization، إذًا هل بالفعل كل جزء من الدماغ يتحكم في وظائف معينة؟، هل يستخدم الشخص إما الجزء الأيمن من دماغه أو الأيسر؟. كسائر نظريات علم النفس المنتشرة نشأت هذه النظرية الخاطئة بسبب مُلاحظات عن الدماغ البشري تم تشويهها والمبالغة فيها بشكلٍ كبير مع مرور الزمن. لنلقي نظرة في البداية على ما تقترحه هذه النظرية.
النصف الأيمن:
وفقًا للنظرية نجد أن النصف الأيمن من الدماغ هو الأفضل في المهام الإبداعية والتعبيرية، بعض القدرات المصحوبة بالجزء الأيمن من الدماغ تتضمن:
- التعرف على الوجوه
- التعبير عن المشاعر
- الموسيقى
- فهم وإدراك المشاعر
- الألوان
- الصور
- الحدس وسرعة البديهة
- الإبداع
النصف الأيسر:
النصف الأيسر من الدماغ وفقًا للنظرية يعتبر ماهرًا في المهام التي تتضمن المنطق، اللغة والتفكير التحليلي، ويوصف الجزء الأيسر بتفوقه في القدرات التالية:
- اللغة
- المنطق
- التفكير النقدي
- الأرقام
- الاستنتاج
نظرية النصف الأيمن والأيسر من الدماغ ظهرت بفضل أعمال Roger W. Sperry والذي حاز على جائزة نوبل في عام 1981، بينما كان يدرس ويبحث آثار داء الصرع اكتشف روجر أن قطع الجِسم الثَّفني أو الجسم الجاسئ -corpus callosum – (مجموعة من الألياف العصبية التي تربط نصفي الدماغ ببعضهما البعض) يمكن أن يُقلل ويمنع نوبات الصرع.
للتوضيح، في بعض حالات الصرع الشديدة يلجأ الأطباء إلى قطع جزء كبير من نصف الدماغ الذي تبدأ منه نوبات الصرع كحل أخير ومع مرور الوقت يملأ السائل الدماغي ذلك الفراغ مرة أخرى وقد يلزم المريض سنة أو أكثر إلى أن يتعافى ويصبح طبيعيًا مرة أخرى وهذا ما يدفع العلماء ويدفعنا في الواقع للتساؤل عن فائدة النصف الذي تم استئصاله من البداية؟!.
من الجدير بالذكر أنه قد ظهرت على المرضى أعراض أخرى بعد أن تم قطع خط الاتصال بين نصفي دماغهم. على سبيل المثال، وُجِد أن العديد من المرضى فقدوا القدرة على معرفة أسماء أشياء يتم معالجتها والتفكير فيها باستخدام النصف الأيمن من الدماغ ولكن كانت لديهم القدرة على معرفة أسماء الأشياء التي يتم التفكير فيها بالنصف الأيسر من الدماغ. وبناءً على هذه المعلومات والملاحظات استنتج روجر أن اللغة مثلًا يتم التحكم بها عن طريق نصف الدماغ الأيسر.
وفي منتصف القرن الثامن عشر اكتشف الطبيب Paul Broca منطقة أساسية في النصف الأيسر من الدماغ وذكر أنها مسؤولة عن اللغة، وأي تلف أو عبث في منطقة بروكا كما يطلق عليها اليوم سينتج عنه شخص غير قادر على التحدث وقد رأيت هذه الحالة تحديدًا في أحد البرامج الوثائقية عندما كان الطبيب يقوم بتعريض تلك المنطقة لشحنة كهربائية طفيفة تُفقد الشخص الذي أمامه القدرة على النطق مؤقتًا حتى يقوم برفع يده مرة أخرى، الشيء المدهش هو أن نفس المنطقة في النصف الآخر من الدماغ ليس لها أي تأثير على الإطلاق.
منطقة أخرى مسؤولة عن التعرف على الوجوه ونجدها في الجزء السفلي من الدماغ، النصف الأيمن من هذه المنطقة يقوم بمعظم العمل اللازم للتعرف على الأوجه، في الواقع لو نظرت لوجه شخص ما بالعين اليسرى فقط (المرتبطة بالجزء الأيمن من الدماغ) ستتمكن من التعرف على وجهه أفضل بكثير مما إذا استخدمت العين اليمنى فقط.
تلا هذا الأمر بعد ذلك أبحاث ودراسات أظهرت أن الدماغ ليس في الواقع جسمًا ثنائيًا كما يبدو. على سبيل المثال، دراسة حديثة أظهرت أن قدرة الإنسان على القيام بأنشطة معينة مثل الرياضيات تكون في أكفأ حالاتها عندما يستخدم نصفي دماغه في نفس الوقت. اليوم يدرك علماء المخ والأعصاب جيدًا أن نصفي الدماغ يعملان معًا لإنجاز العديد من المهام والوظائف وأن كليهما يتصلان ببعضهما البعض من خلال الجسم الجاسئ.
يقول كارل زيمر في مقال نُشر في مجلة ديسكفري “بغض النظر عن درجة التخصصية الثنائية الموجودة في الدماغ فكلا نصفيه يعملان معًا وجنبًا إلى جنب، نظرية النصف الأيمن والأيسر من الدماغ لا تعطي التصور الصحيح لعلاقة العمل الحميمية بين نصفي الدماغ، النصف الأيسر من الدماغ متخصص في التقاط الأصوات التي تتشكل منها الكلمات وترجمتها للمعنى الحرفي المقابل لها على سبيل المثال، ولكن ليس لديه قدرة على المعالجة اللغوية. النصف الأيمن من الدماغ في الواقع أكثر حساسية وإدراكًا للمشاعر التي تتضمنها وتحملها اللغة والكلمات.
في دراسة أخرى قام بها باحثون من جامعة يوتاه، أكثر من 1000 مشارك تم تحليل أدمغتهم بغرض معرفة ما إذا كان أحدهم يميل لاستخدام أحد نصفي الدماغ أكثر من الآخر، وكشفت الدراسة عن أنه قد يكون النشاط مرتفعًا في بعض الأحيان في مناطق مهمة من الدماغ ولكن كلا نصفي الدماغ كانا متساويين من حيث النشاط في المتوسط. ويقول الدكتور جيف أندرسون المشرف على الدراسة “أنه صحيح قطعًا أن بعض وظائف الدماغ تحدث في أحد نصفي الدماغ دون الآخر، اللغة تحدث في الجزء الأيسر، والانتباه والتركيز يحدث في الجزء الأيمن، ولكن الناس لا تصنف إجمالًا بحسب استخدام الجزء الأيسر أو الأيمن من الدماغ”.
في فترة التسعينات من القرن المنصرم ادّعى عالم النفس Michael Corballisأن عدم التماثل بين نصفي الدماغ (أو التخصصية الوظيفية) يعد من أهم مراحل تطور البشر وهي المزية التي ساهمت في حصولنا على اللغة والقدرات العقلية الأخرى التي تميزنا عن باقي الكائنات، اليوم يعترف مايكل أنه كان على خطأ وأن التخصصية الوظيفية لنصفي الدماغ ليست حكرًا على البشر، الببغاء مثلًا يفضل أن يلتقط الأشياء بقدمه اليسرى، الضفدع يهاجم الضفادع الأخرى من الجهة اليمنى بينما يطارد فريسته من الجهة اليسرى، السمك الوحشي يفضل أن ينظر للأشياء الجديدة بعينه اليمنى بينما ينظر للأشياء المألوفة بالعين اليسرى.
إحدى الفرضيات تقترح أن التخصصية الوظيفية لنصفي الدماغ أفضل من أن يكون نصفي الدماغ مجرد انعكاس لبعضهما البعض ويقومان بنفس الوظائف في نفس الوقت وعوضًا عن ذلك يمكن لأحد النصفين أن يقوم بوظيفة ما ليترك النصف الآخر للقيام بمهمة أخرى، عالمة الأحياء Lesley Rogers اختبرت هذه الفرضية على الدجاج، إذ يستخدم الدجاج النصف الأيسر من الدماغ للنقر والبحث عن البذور ويستخدم النصف الأيمن لمراقبة المفترسين، بعض الدجاج يتميز بتخصصية وظيفية في الدماغ أكثر من البعض الآخر وهناك طريقة بسيطة لزيادة تلك التخصصية الوظيفية من خلال تعريض جنين الدجاجة للضوء أثناء وجوده في البيضة، جنين الدجاج يتطور في الغالب وعينة اليسرى مطوية للداخل بينما تكون العين اليمنى معرضة للجزء الخارجي من قشرة البيضة، من خلال تعريض وإثارة العين اليمنى بالضوء يمكن التأثير على تطور ونمو النصف الأيسر من الدماغ وليس الأيمن. قامت ليزلي وزملاؤها بتربية 27 من صغار الدجاج الذين تم تعريضهم للضوء و24 آخرين لم يتم تعريضهم للضوء، وكل يوم يقوم الباحثون بوضع الفراخ الصغيرة في صندوق خاص به بذور وحصى مبعثرة على أرضيته وفي نفس الوقت يقومون بتشتيت الفراخ بتمرير دمية على شكل صقر من فوق رؤوسهم ثم لاحظوا بعد ذلك كيف كانت قدرة الفراخ الصغيرة على التمييز بين البذور والحصى وتوصلوا إلى أن الفراخ الصغيرة التي تعرضت للضوء كان أداؤها أفضل من الأخرى، واستنتج الفريق من ذلك أن التخصصية الوظيفية الزائدة التي اكتسبتها الفراخ وفرت لها تعددية في المهام إذ أصبح بإمكانها استخدام كل عين بشكل منفصل وبكفاءة من أجل مراقبة الصقر والتمييز بين البذور والحصى.
والدراسات والأبحاث كثيرة في الواقع ويصعب علينا ذكرها جميعًا في هذا المقال ولكن علماء الأعصاب يعلمون اليوم جيدًا أن نصفي الدماغ يعملان يدًا بيد ويتصلان ببعضهما من خلال الجسم الجاسئ الذي ذكرناه ولكن طريقة التعاون التي تتم بينهما هي التي لا نعلمها تمامًا، ربما تتبادل الأجزاء المتشابهة الأدوار فيما بينهما ليسيطر أحدهما فترة ثم يسيطر الجزء الآخر كما يحدث في بعض الحيوانات مثل الدلافين مثلًا التي تستخدم هذه التقنية من أجل النوم والسباحة في نفس الوقت بعض العصافير تستخدم نفس الاستراتيجية من أجل الغناء ويعمل نصفا دماغها بالتبادل من أجل التحكم في الرئتين أثناء الغناء إذ يتحكم كل نصف منهما لأجزاء بسيطة من الثانية ليستلم النصف الثاني التحكم.
ولعل أشد ما يثير الدهشة والتعجب قدرة الدماغ على العمل بنصف دماغ واحد فقط، بعد أن يتم إجبار احد نصفي الدماغ على استلام زمام الأمور بمفردة بعد استئصال النصف الآخر يبدأ في مد خطوط اتصال جديدة وإعادة بناء نفسه بحيث يمكنه التحكم الكامل في الجسم، في الواقع نصفا الدماغ يمكن أن يتسببا في مشاكل أكثر من نصف واحد لو كانت هناك صعوبة في الاتصال بينهما وهناك بعض علماء الأعصاب الذين ربطوا بين اضطرابات نفسية مثل عسر القراءة أو أمراض شديدة مثل ألزهايمر بمشاكل الاتصال بين النصف الأيسر والأيمن من الدماغ.
إذًا لماذا لا يزال الناس يتحدثون عن هذه النظرية؟
الباحثون والدراسات المختلفة أثبتت بالفعل أن نظرية النصف الأيمن والأيسر من الدماغ مجرد حقيقة خاطئة، ومع ذلك لا زالت هذه النظرية متداولة وتحظى بشعبية كبيرة بين الناس والوسائل الإعلامية المختلفة، ولسوء الحظ لا يدرك معظم الناس أن هذه النظرية قديمة جدًا. اليوم، قد يدرس الطلاب هذه النظرية كجزء تاريخي متعلق بمجالهم ليس أكثر لفهم كيف تطورت أفكارنا ونظرياتنا حول طريقة عمل الدماغ عبر الزمن. إدراك نقاط قوتك وضعفك بعيدًا عن مبالغات وتعميم كتب علم النفس وتطوير الذات يمكن أن يساعدك على التعلم بشكل أفضل والشيء الهام الذي يجب أن تتذكره إذا تعرضت لأحد اختبارات تحديد ما إذا كنت تستخدم النصف الأيمن أو الأيسر من دماغك على الإنترنت هو أنها للترفية ولا يجب أن تعول كثيرًا على نتائجها.
المصادر:
1 2 3 4 5 6 7