“لماذا تفشل الأمم” كتاب شيق مكتوب بأسلوب رائع يحاول من خلاله المؤلفين إجابة سؤال حير الكثير من المتخصصين في القرون الماضية: لماذا بعض الأمم غنية والأخرى فقيرة؟ لماذا ينقسمون بالغنى والفقر – الصحة والمرض – وفرة الطعام والمجاعة؟
هل هي الثقافة؟ الطقس؟ الموقع الجغرافي؟
هل هي الجهل بأفضل السياسات؟
بالتأكيد لا …. إذن ماذا؟
تعالوا نأخذكم فصلا فصلا في رحلة مع الكتاب …. ربما تجد الإجابة ويعرف كل منا دوره
السطور القادمة هي ملخص للفصل الأول من كتاب “لماذا تفشل الأمم”
تحت عنوان: “قريب جدا ولكن مختلف”
تبدأ الحدوتة في مدينة Nogales الواقعة على الحدود بين أمريكا والمكسيك. سياج حدودي يقسم المدينة إلى نصفين: النصف الأول تابع إداريا لولاية أريزونا الأمريكية والثاني لمقاطعة سونورا المكسيكية.على النقيض تماما من النصف المكسيكي; يتمتع مواطنو النصف الأمريكي بدخول مادية عالية، تعليم راقي, رعاية صحية جيدة, خدمات حكومية, سيادة قانون وأمن وديموقراطية.
كيف نشأ هذا الإختلاف في سكان مدينة واحدة لا تفصلهم أي حواجز جغرافية، يعيشون تحت نفس الظروف المناخية، ينحدرون من نفس الأصول العرقية وتقريبا يتشاركون في نفس الثقافة ؟؟؟
طبعا إجابة السؤال متوقعة : لأن هذه أمريكا وتلك المكسيك !
و لكن كيف أصبحت أمريكا أمريكا والمكسيك مكسيك ؟؟؟
ذلك بسبب اختلاف المؤسسات السياسية والإقتصادية على كلا الناحيتين من السياج الحدودي. هذه المؤسسات على الناحية الأمريكية وفرت لمواطنيها تعليم جيد سمح لهم باكتساب مهارات حرفية أهلتهم لقنص فرصة عمل مناسبة أو مهارات إبداعية تكنولوجية مكنتهم من إنشاء شركة إستثمارية، وبالتالي يصنعوا الأرباح ويجنوا الدخول المادية المرتفعة. ليس هذا فقط، وفرت لهم هذه المؤسسات فرصة انتخاب من يمثلهم واستبداله بآخر إذا أساء الإدارة.
و يرجع مؤلفو الكتاب هذا الاختلاف في طبيعة المؤسسات الأمريكية والمكسيكية إلى تاريخ البلدين الاستعماري والأسلوب المختلف الذي أدار به المستعمر الأسباني أمريكا اللاتينية عن نظيره البريطاني لأمريكا الشمالية. ويسرد الكتاب العديد من القصص التاريخية الممتعة لهذه الفترة الاستعمارية من تاريخ البلدين، ولكني لن أخوض فيها وسأتركها لمن هو مهتم بقراءة الكتاب كاملا.
هأضغط على زرار “fast forward” قليلا وأذهب لمثال حي من العصر الحديث.
تتمثل الاختلافات في طبيعة المؤسسات في قصتي نجاح بيل جيتس (رجل الأعمال الأمريكي مؤسس شركة ميكروسوفت) وكارلوس سليم (رجل الأعمال المكسيكي المنحدر من أصول لبنانية); وكلاهما من أغنى أغنياء العالم.
طبعا حدوتة جيتس مع ميكروسوفت معروفة للجميع. وعلى الرغم من أن ميكروسوفت شركة عملاقة تساهم بشكل كبير في نمو الاقتصاد الأمريكي، إلا أن الحكومة الأمريكية لم تجد حرجا في مسائلة ومحاكمة جيتس بخصوص الممارسات الاحتكارية لشركته في مجال البرمجيات. وبالفعل تمت تسوية الموقف بعد تغريم جيتس و”قصقصة جناحاته”.
على النقيض تماما كارلوس الذي لم يصنع ثروته من الابتكار في مجال التكنولوجيا ولكن من خلال المتاجرة في البورصة، شراء وإعادة بيع الشركات الخسرانة وبيزنس الاتصالات. فقد إحتكر هذا البيزنس منذ شرائه لشركة الاتصالات المكسيكية بعد عرضها للخصخصة في صفقة مشبوهة !
طبعا المؤسسات السياسية والإقتصادية التي ساهمت في إنجاح كارلوس مختلفة تماما عن تلك التي أنجحت جيتس. كارلوس الطموح كان بارعا في قنص العقود الحصرية التي مكنته من احتكار قطاعات من الصناعة بأكملها والذي أدر عليه بالوفير من المال. تم ذلك طبعا من خلال علاقاته بالمؤسسات السياسية الفاسدة التي سهلت له الحصول على هذه العقود. وحينما حاولت شركات أخرى سلك القنوات الشرعية لكسر ممارساته الاحتكارية ومنافسته، فشلت فشلا ذريعا بسبب الفجوات القانونية والفساد الحكومي الذي مكن كارلوس من الاستمرار. وحينما حاول كارلوس الامتداد بأعماله إلى الولايات المتحدة متبعا لنفس الأساليب الملتوية التي أتقنها ببراعة، فشل وتم تغريمة ومحاكمته في ولاية تكساس وجر أذياله سريعا عائدا إلى المكسيك.
كان جيتس محظوظا لأن مؤسسات البلد التي بدأ فيها أعماله ساعدته وقدمت له الحوافز للاستمرار في استثماراته. يعني لو أنك في أمريكا وحصلت على تعليم جيد وبذلت مجهود في الابتكار والتطوير، ستجد مؤسسات اقتصادية تسهل عليك إجراءات إنشاء شركة جديدة دون اللجوء لخوض قنوات الفساد الملتوية، يسهل لك الحصول على قروض ميسرة تمول بها “البيزنس” الخاص بك، قوانين سوق تمكنك من توظيف أفضل العناصر. جيتس كان واثق في مؤسسات الدولة وقدرتها على فرض سيادة القانون الذي هيحمي عمله. المؤسسات السياسية المستقرة المحددة السلطات جعلته يكمل طريقه بدون أن يخاف من وقوع السلطة في أيدي ديكتاتور ممكن يغير قواعد اللعبة بين يوم وليلة ويجعله يخسر ثروته، استثماراته أو حريته !
باختصار شديد .. ما يحدد نجاح أو فشل أي دولة هو مؤسساتها السياسية والاقتصادية.
السياسات السليمة تحدد مسارات اقتصادية سليمة توفر حوافز للتميز والنجاح والإبداع وتحول الطموح والموهبة لطاقة إيجابية.
مشكلة بلد مثل المكسيك أن طابع مؤسساتها ممتد لجذور المجتمع ومرتبط بتاريخه وبالتالي من السهل استمراره ومن الصعب جدا تغييره !
الأمانة العلمية تحتم علي أن أقول أن جيتس كان عنده تحفظات على الكتاب، لست مؤهلا للحكم عليها وإن كنت لا أستطيع أن أخفي ميلي نحو الأسلوب المنطقي لمؤلفين الكتاب.
http://www.thegatesnotes.com/en/Books/Personal/Why-Nations-Fail?WT.mc_id=03_1_2013_WhyNationsFail_tw&WT.tsrc=Twitter
وهذا رد المؤلفين عليه:
http://www.foreignpolicy.com/articles/2013/03/12/what_bill_gates_got_wrong_about_why_nations_fail
“لماذا تفشل الأمم” – السطور القادمة هي ملخص للفصل الثاني من كتاب لماذا تفشل الأمم
تحت عنوان : نظريات خاطئة
يناقش المؤلفين في هذا الفصل النظريات التي تم طرحها سابقا لتفسير الفجوة الحضارية بين الدول المتقدمة والمتخلفة :
١- اختلاف الخغرافيا
٢- اختلاف الثقافة
٣- الجهل بالطرق الصحيحة لتحقيق النمو
اختلاف الجغرافيا والثقافة لا يستطيع تفسير الاختلافات بين شمال وجنوب مدينة نوجاليس الواقعة على الحدود الأمريكية المكسيكية (تم تناولها بتفاصيل في الفصل الأول)، شرق وغرب ألمانيا قبل سقوط حائط برلين، وأخيرا شمال وجنوب كوريا. هذا بالإضافة إلى أن أمريكا اللاتينية أيام حضارات الأزتك والإنكا كانت أكثر تقدما من أمريكا الشمالية قبل وصول الأوروبيين.
و بالتالي لا توجد علاقة بين اختلاف الجغرافيا أو الثقافة بتقدم الأمم أو تخلفها. نعم هناك ثقافة الكسل وعدم حب العمل عند بعض الشعوب ولكن هذا السلوك ليس سببا في التخلف وإنما نتيجة لعدم انتهاج مؤسسات الدولة سياسات اقتصادية تحفزهم على العكس !
ما يمنع قادة الدول الفقيرة من انتهاج سياسات النمو الإقتصادي ليس جهلهم بها ولكن خوفا من الثمن السياسي الذي سيدفعونه. وعندما تتغير سياسات الدول فجأة نحو النمو فإن هذا ليس بسبب أن قادتها “الجهلة” أدركوا فجأة أن سياساتهم تؤدي إلى الفقر.
عندك مثلا الصين، تغير سياساتها من الشيوعية إلى إقتصاد السوق الحر لم تكن بسبب أن الحزب الشيوعي انتبه فجأة ولكن كان بسبب الانتصار السياسي الذي حققه Deng Xiaoping (صاحب رؤية مختلفة) داخل الحزب على خصومه السياسيين مما أهله لقيادة هذه الثورة السياسية وتغيير اتجاهات الدولة بأكملها !
الاستناجين الرئيسيين من هذا الفصل :
١- الفجوة العميقة بين العالم المتقدم والمتخلف لم تنشأ بسبب اختلاف الجغرافيا أو الثقافة أو جهل القادة، ولكن كان بسبب تأخر الدول المتخلفة في اعتناق عقيدة التكنولوجيا بعد الثورة الصناعية التي بدأت في بريطانيا في القرن التاسع عشر.
٢- الدول الفقيرة أصبحت فقيرة لأن القائمين على صنع القرار في هذه الدول اختاروا “ليس عن طريق الخطأ أو الجهل ولكن عامدين” متعمدين سياسات حتما تؤدي إلى الفقر. وبالتالي إذا كنت تحاول البحث عن أسباب الفقر، ابحث عن صانع القرار: من هو، كيف صنعه ولماذا !
“لماذا تفشل الأمم” -السطور القادمة هي ملخص للفصل الثالث من كتاب لماذا تفشل الأمم
تحت عنوان: صناعة الرخاء والفقر
يتمحور هذا الفصل حول تاريخ الكوريتين الشمالية والجنوبية وما وصلوا إليه من تناقض: دولة فقيرة متخلفة في الشمال وأخرى غنية متقدمة في الجنوب.
نبذة تاريخية عن الكوريتين:
انتهاء الحرب العالمية الثانية بهزيمة اليابان أدى إلى تفكك أهم مستعمراتها (كوريا) التي تم تقسيمها إلى قسمين: شمالي تحت سيطرة الاتحاد السوفيتي وجنوبي تحت سيطرة الولايات المتحدة. كان Rhee خريج هارفارد والمعادي للشيوعية هو أول رئيس منتخب لكوريا الجنوبية، والذي استطاع بدعم أمريكي قوي أن يؤسس لمؤسسات كوريا الجنوبية. انتهت فترة رئاسته الثالثة بانقلاب عسكري بقيادة الجنرال Park وتم نفي Rhee خارج البلاد. أغتيل Park وأعقب ذلك انقلاب عسكري آخر بقيادة الجنرال Chun.
تميزت فترة حكم Rhee والجنرالين بالاستبداد والقمع السياسي لمعارضيهم، إلا أنهم في ظل المؤسسات التي أنشئت تحت رعاية الولايات المتحدة لم يجدوا بدا من توظيف إمكانيات الدولة لخدمة اقتصاديات السوق الحر، فدعموا التعليم وشجعوا الشركات الناجحة. فقط حينما اختار Chun جنرالا آخر ليخلفه، Roh، أدى ذلك إلى ظهور حركات شبابية داعية للديموقراطية أجبرته على تعديل مسار الدولة وإرساء قواعد دولة ديموقرطية في كوريا الجنوبية في بداية التسعينات وإجراء أول انتخابات رئاسية نزيهة كان هو الفائز فيها ! استثمرت حكومات الكورية الجنوبية في التعليم وشجعت الصناعة والإستثمار حتى أصبحت كوريا واحدة من المعجزات الإقتصادية وواحدة من أسرع دول العالم نموا.
في الشمال كان الوضع مختلف تماما، فقد وقعت السلطة في أيدي Kim Il-Sung الشيوعي وأحد المحاربين ضد الاحتلال الياباني، والذي بدوره نصب نفسه ديكتاتورا وورث السلطة إلى أبنائه حتى يومنا هذا. أنشأ Kim نظاما سياسيا قمعيا، وسوق مفتوح فقط على مجموعة ضيقة من المنتفعين (هو وأصدقائه وعلية القوم). وفي ظل نظام قمعي وغياب تام للقوانين التي تحمي الملكية الخاصة والحافز على زيادة الإنتاج وتحسين الظروف المعيشية كان نتيجة ذلك انصراف مواطني كوريا الشمالية عن الإبداع والابتكار التكنولوجي. انتهت هذه السياسات بكارثة اقتصادية نرى معالمها واضحة حتى الآن (قارن بين شده الإضاءة المسجلة عن طريق الأقمار الصناعية في الصورة أعلاه).
هناك نوعين من الاقتصاد : حر وانتقائي
Inclusive vs. extractive economies
الاقتصاد الحر (كالموجود في الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية) هو الذي يسمح لأكبر عدد ممكن من المواطنين بالمشاركة في الأنشطة الاقتصادية واستغلال كل مهاراتهم في تحقيق أرباح من خلال سوق مفتوح. نجاح سياسة الاقتصاد الحر يتوقف على أن توفر الدولة قوانين غير متحيزة تحمي الملكية الخاصة وخدمات عامة تسمح بحرية الحركة للمستثمر.
نظام الاقتصاد الحر يمهد الطريق إلى محركين مهمين لرخاء الدولة: التعليم والتكنولوجيا، لأنه المستفيد الأساسي من توفر أيدي عاملة متعلمة قادرة على الابتكار والتطوير.
خروج بيل جيتس وستيف جوبز من رحم المؤسسات الإقتصادية الأمريكية، وسامسونج وهيونداي من رحم نظيراتها الكورية الجنوبية لم تكن مصادفة !
على العكس تماما تعمل السياسات الاقتصادية الانتقائية على تراكم الثروة والسلطة في أيدي مجموعة صغيرة من المنتفعين على حساب باقي المجتمع، مما يعوق النمو الاقتصادي ويؤدي حتما إلى فشل الدولة.
لماذا لا يختارون طريق الرخاء ؟
طيب .. ألا تتوقع أن أي مواطن، سياسي أو حتى ديكتاتور يتمنى تحقيق الرخاء لبلده (و لنفسه، حيث أنه سيستفيد هو الآخر، ماذا تتوقع أن يخسر !)؟
للأسف (بالنسبة للدكتاتور) / من حسن الحظ (لنا نحن) اتباع سياسات الإقتصاد الحر ينتج عنه إعادة توزيع للثروة والسلطة بحيث يتم اختيار طبيعي للأصلح والقادر على تحقيق النمو الاقتصادي، ما يعرف بظاهرة “التدمير الخلاق”، وبالتالي يفقد الدكتاتور جزءا من سلطته وأحيانا كلها !
يعني ليس جهل أو قصر نظر الدكتاتور/مراكز القوة هو ما يعوق النمو الاقتصادي، بل على العكس تماما .. إدراكهم التام “لمخاطر” الاقتصاد الحر وخوفهم من التدمير الخلاق هو سبب وقوفهم في طريق تطبيق سياسات الإقتصاد الحر.
السطور القادمة هي ملخص للفصل الرابع من كتاب “لماذا تفشل الأمم” تحت عنوان : – منعطفات حرجة –
يتناول المؤلفين في هذا الفصل الدور الذي تلعبه المنعطفات التاريخية التي تمر بها الأمم في توجيه مؤسسات الدولة نحو المسار الذي ينتج عنه النمو الإقتصادي والتقدم والرخاء أو العكس.
إستخدم المؤلفين ٣ أمثلة من تاريخ بعض الدول لتوضيح هذا المعنى :
١- إنجلترا
في القرن الرابع عشر كانت إنجلترا خاضعة لحكم الملك الذي يملك الأراضي ويمنح حق إنتفاعها إلى مجموعة من اللوردات، الذين بدورهم يجلبوا الفلاحين الفقراء للعمل في الأرض بدون أجر مقابل الطعام والسكن. كان نظام إقتصادي إنتقائي بحت، حيث تدفقت الثروة إلى حفنة من اللوردات والملك بطبيعة الحال حتى مرت إنجلترا بمعنطفين أساسيين دفعوا بالدولة في إتجاه تكوين مؤسسات إقتصادية حرة.
كان الأول هو إنتشار مرض الطاعون الذي أودى بحياة نصف عدد السكان تقريبا. أدى هذا العدد الهائل من الإصابات إلى ندرة في الأيدي العاملة شجعت الفلاحين على المطالبة بحقوقهم من الأجور. تطور هذا الحراك تدريجيا مع إكتساب الطبقة العاملة لمزيد من القوة الفاعلة والتأثير في المجتمع الإنجليزي، وإستمر سقف المطالب في الصعود تدريجيا حتى إندلعت الثورة الإنجليزية المجيدة في القرن السابع عشر.
أما الحدث الثاني فكان هزيمة الأسطول الأسباني على يد الأسطول الإنجليزي الذي إستأثر بطرق التجارة عبر الأطلنطي مع العالم الجديد. إزدهرت هذه التجارة وإزدادت شوكة هؤلاء التجار الذين حرصوا على الإنتفاع بأرباح تجارتهم وعدم إحتكار الملك لها. كان لهذا الحدثين تأثير عميق على تاريخ إنجلترا نتج عنه تقلص تدريجي لسلطات الملك وإعادة توزيعها على البرلمان. مهدت هذه التغيرات إلى قيام الثورة الصناعية التى فتحت الطريق أمام بناء مؤسسات سياسية وإقتصادية حرة وفرت مناخ شجع على تطوير التكنولوجيا وتطبيقاتها.
٢- اليابان
على الرغم من القرب الخغرافي بين اليابان والصين، ووقوع كلاهما تحت حكم نظام إستبدادي إقطاعي، إلا أن اليابان بدأت في الإنحراف تدريجيا نحو مسار الدولة ذات الإقتصاد الحر. نظام توكوجاوا الإستبدادي، الذي أغلق كل الطرق أمام التجارة مع العالم الخارجي، لم يستطيع إحكام سيطرته على الإقطاعيين وبدأت تتكون ضده جبهة منظمة من المعارضين، حتى مرت اليابان بمنعطف تاريخي تمثل في تدخل خارجي أمريكي عام ١٨٥٣.
أرسلت أمريكا بوارج حربية تطالب توكوجاوا بتقديم تنازلات تسمح بفتح طرق التجارة. قدمت أمريكا مساعدات عززت من موقف المعارضة التي نظمت صفوفها وقامت بثورة أطاحت بحكم توكوجاوا ودفعت الدولة نحو تكوين مؤسسات إقتصادية حرة كان نتيجتها تقدم اليابان الذي نشهده الأن.
٣- الشرق الأوسط
وقع الشرق الأوسط تحت الإستعمار العثماني الذي تميز بأنه حكم إستبدادي إنتقائي لم يسمح بحرية الملكية الخاصة. كانت مصادر الدخل الأساسية للحكومة هي الضرائب وحصص من المحاصيل وغنائم الحروب. لم تسطيع الدولة العثمانية السيطرة إداريًا على مستعمراتها فإضطرت إلى بيع حقوق جمع الضرائب إلى أشخاص أداروا المستعمرات بالطريقة التي تحقق لهم الإنتفاع المادي الشخصي الأكبر، ومع الوقت إكتسبوا قوة مكنتهم من إنشاء كيانات مستقلة عن الحكم العثماني.
ومع سقوط الدولة العثمانية جاء الإستعمار الأوروبي الذي أدار الشرق الأوسط بطريقة مماثلة. ثم مرت دول الشرق الأوسط بمنعطف تاريخي تمثل في إستقلالهم عن أوروبا، ولكن ضاعت الفرصة لإن من أتوا إلى سدة الحكم، بدلا من أن يدفعوا ببلادهم نحو طريق المؤسسات الإقتصادية الحرة، أمعنوا في تطبيق السياسات الإنتقائية التي تركز الثروة في يد عدد قليل من المنتفعين.
الإستنتاج الرئيسي من هذا الفصل :
تمر الدول بأحداث تاريخية (منعطفات حرجة) قد تؤدي بمؤسسات الدولة إلى الإتجاه نحو سياسات الإقتصاد الحر وما يجلبه من تقدم ورخاء أو العكس. يتحكم في هذه النتيجة مجموعة من العوامل، تحدد “الممكن تحقيقه سياسيا”، منها :
١- توازن القوى والشد والجذب بين أطراف المعادلة السياسية .
٢- من هي المجموعة القادرة على تكوين تحالفات مع خصومها السياسية .
٣- من هم القادة القادرين على تشكيل الأحداث نحو خدمة أهدافهم .
السطور القادمة هي ملخص للفصل الخامس من كتاب لماذا تفشل الأمم تحت عنوان : النمو الإقتصادي في ظل غياب لسياسات السوق الحر
إستعرض المؤلفون في الفصول الأربعة السابقة أطروحتهم الأساسية المبني عليها هذا الكتاب والتي تفسر أسباب الفجوة العميقة الموجودة حاليا بين دول العالم الغنية والفقيرة. تتلخص هذه الأطروحة في أن الإختلاف بين المؤسسات السياسية والإقتصادية وليس إختلاف الثقافة أو الجغرافيا هو ما يصنع مثل هذه الفوارق بين الأمم.
إتباع سياسات الإقتصاد الحر هي الوقود المحرك لعجلة التطور التكنولوجي وما يجلبه هذا من تقدم ورخاء. في هذا الفصل يطرح المؤلفون سؤالا بديهيا : هل الإستنتاج السابق يعني بالضرورة أن فرصة النمو الإقتصادي في ظل حكم مؤسسات إنتقائية لا تطبق سياسات السوق الحر = صفر ؟
و الإجابة هي : بالطبع لا، لإن مثل هذه الأنظمة تسعى إلى خلق ثروة وتركيزها في أيدي النخبة الحاكمة، خلق هذه الثروة يعني بالضرورة ظروف تسمح بدرجة ما من النمو الإقتصادي. في ظل هذه الأنظمة يحتكر الحاكم السلطة ويخلق نظاما مركزيا يعيش في بيئة تتمتع بدرجة ما من دولة القانون والأمن الذي يسمح بدرجة ما من الإنتعاش في الأنشطة الإقتصادية وما يتبعه من نمو. لكن هذا النمو يختلف عن نظيره الذي يتم تحقيقه في ظل نظام إقتصادي حر في أنه مؤقت ولا يعتمد على التدمير الخلاق الذي يسمح بخلق تكنولوجيات جديدة، في أغلب الأحيان يعتمد هذا النمو على تطوير تكنولوجيات موجودة بالفعل.
يستشهد المؤلفون بأمثلة عديدة من التاريخ، إخترت لكم منها الإتحاد السوفيتي لإنها أكثرهم معاصرة وقربا لعقول قراء هذا المقال. الإتحاد السوفيتي هو مثال حي على كيفية إستخدام الدولة سلطتها لتحقيق تقدم إقتصادي سريع في ظل مؤسسات إنتقائية، وكيف يكتب نظام هذه الدولة شهادة وفاته بنفسه لإنه حتما سينهار تماما.
مع صعود ستالين للسلطة في عام 1927، إستطاع القضاء على معارضيه وأسس لنظام دكتاتوري مبني على مشروع قومي يهدف إلى تحويل الإتحاد السوفيتي إلى قوة صناعية عظمى قادرة على المنافسة مع دول غرب أوروبا وأمريكا. سخر نظام ستالين إمكانيات الدولة بأكملها في سبيل خدمة هذا الهدف فألغي قانون الملكيات الخاصة للأراضي الزراعية ووضعها جميعا تحت سيطرة الدولة حتى يتحكم الحزب الشيوعي بشكل تام في الناتج الزراعي ويستخدمه لإطعام عمال المصانع والمناجم.
وفي ظل غياب الحوافز للفلاحين العاملين بقطاع الزراعة، إنخفض الإنتاج بشكل حاد مما أدى إلى حدوث مجاعات في بعض الأحيان. وضع ستالين قوانين عمل صارمة تجرم الغياب أو التكاسل في العمل. كانت أولوليات نظام ستالين الإقتصاد تتركز في إنتاج الصناعات الثقيلة مع تطوير في مجالات محدودة جدا (عسكرية وتكنولوجيا الفضاء).
شرع الإقتصاد السوفيتي في النمو بشكل سريع أبهر الغرب. ولكن إتباعه لمثل هذه السياسات كان روشتة لحدوث كارثة. غاب الحافز الإقتصادي تماما عن المنتجين، حيث أن الدولة هي التي تحدد المرتبات والأسعار، وبالتالي تغيب التنافسية وينصرف المنتجين عن الإبداع والتطوير. حتى الهيئات الإستشارية التي أنشأت في الأصل بهدف وضع خطط تطوير الإقتصاد السوفيتي إقتصر دورها على تقديم المعلومات لستالين عمن يقدم له فروض الولاء والطاعة فيكافئه أو العكس فيتم معاقبته، نفيه أو إعدامه.
مع بداية السبعينيات ظهرت علامات التباطؤ على الإقتصاد السوفيتي، وكان لا بد من تغيير هذه السياسات ولكن هذا كان معناه ضياع السلطة من الحزب الشيوعي. وبالفعل حينما شرع ميخائيل جورباتشوف في سياساته الإصلاحية، سقط الحزب الشيوعي وسقط معه الإتحاد السوفيتي بأكمله.
الإستنتاجين الرئيسيين من هذا الفصل:
١- حينما تحتكر الدولة جميع الموارد وتضع قرارات السوق بشكل منفرد بالنيابة عن مواطنيها، لا يتم إستخدام هذه الموارد بالشكل الأمثل لإنه لا يتم توظيف مهارات ومواهب هؤلاء المواطنين في الإتجاه الذي يدعم إستمرارية النمو الإقتصادي.
٢- تركيز الثروة في أيدي نخبة حاكمة وعدم توزيعها بشكل عادل يخلق حالة من عدم الإستقرار والتناحر المستمر مع نخب أخرى تريد أن تحل مكان النخبة الحالية لكي تستأثر لنفسها بالسلطة ومصادر الثروة.